يتناول الكتاب مجموعة من الأفكار والموضوعات التي تلتقي عند مفاهيم كبرى مثل المكان، الجسد، المدينة، والتعبير الأدبي، مع تحليل عميق لكتابات نجيب محفوظ جمعها وصاغها الكاتب مهاب نصر. يعبر الكتاب عن رؤية متعددة الأبعاد، تجمع بين النقد الأدبي والتأملات الشخصية، مما يبرز تحديات التعبير عن الذات والآخر في عالم يتغير بسرعة، سواء عبر المكان أو الجسد أو اللغة. ومن خلال تنوع النصوص والأساليب، يُقدِّم الكتاب تجربة فريدة للقارئ تجمع بين عمق الطرح وسلاسة السرد.
هذا الفصل أجده من أكثر الفصول حيوية في موضوعه: لغتنا، تعبيراتنا، أدوارنا، وما نريد أن نظهر للعالم. المقال الأول «لغة مقدسة ومجاذيب» يتحدث عن كتاب لباحثة إيرانية يناقش تقديس المصري العادي للغة الفصحى التي لا يتقنها، لا يتحدثها، ولا يتذوقها حتى. التساؤل الذي طرحه هذا الكتاب يقودنا إلى أفكار أخرى حول علاقة المصري باللغة، بداية من ظاهرة التقديس غير العادي للغة لا يستخدمونها إلا بالشكل الرسمي، انتقالًا إلى مفارقة السخرية في الأفلام من كل من يتقن الفصحى ويتحدثها في الشارع. كانت الأفلام أكثر اتساقًا ووضوحًا في عرضها، فالمصريون لا يستخدمون الفصحى وألفاظها في حياتهم اليومية، وأي خروج عن هذه القاعدة لا بد أن يكون جاذبًا للانتباه، وبشكل مضحك، لا بانبهار.
انتقلنا من هذه الفكرة إلى عالم الأدب، وكيف تعامل الأدباء مع إشكالية الفصحى والعامية في سردهم الروائي.
أما النص الثاني الذي جذب انتباهي في هذا الفصل فهو «لن أكتب رواية». يبدأ النص بتأملات عميقة وساخرة حول فكرة كتابة الرواية، حيث يخبر الكاتب صديقه، بشكل قاطع، أنه لن يكتب رواية. يبدو هذا القرار رفضًا واضحًا لما يراه الكاتب نوعًا من الإلحاح غير المبرر أو التوقعات المبالغ فيها من صديقه، الذي يعتقد أن الكاتب يمتلك كل الأدوات اللازمة ليحكي قصة «حدوتة».
يستعرض الكاتب محاولاته الفاشلة لكتابة روايتين، محاولات كانت في جوهرها تعبيرًا عن صراع داخلي عميق مع فكرة الإبداع الروائي ومعنى الكتابة نفسها. النص مليء بالسخرية من التجربة الروائية، سواء من جهة الكاتب نفسه أو من جهة الروائيين الآخرين.
يسخر الكاتب من فكرة «الأحداث» التي يعتقد أنها يجب أن تكون مختلقة لكنها تبدو كأنها تحاكي الواقع. كما ينتقد بشدة أولئك الروائيين الذين يضفون على رواياتهم معانٍ رمزية مبالغ فيها، أو الذين يعيدون ترتيب الكلمات ليخلقوا «أنهارًا» من السرد تسير باتجاهات غير متوقعة. هذه السخرية لا تخلو من المرارة، إذ تعكس قناعة الكاتب بأن الرواية ليست مجرد عملية تقنية أو تمرين على الكتابة، بل هي انعكاس لصراع وجودي عميق مع الذات ومع العالم:
«كان الروائيون الكبار يسبحون بذراع، وبالأخرى يكتبون روايات عن ما تفعله الذراع الأولى، أو ربما يكتبون عن أذرع لم يروها أبدًا تسبح في جهة غير معلومة، أو بأذرع شعروا بصفعتها على أقفائهم. كانوا يفعلون ذلك على أمل أن نسبح جميعًا بشكل أفضل وفي اتجاه التقدم، حتى إننا عندها سننسى أننا نسبح، فنضحك ونحب، وتصير لنا عائلات، ونذهب إلى مكاتب بربطات عنق دون أن نبتل».
الفصل القصير عن المدينة يتكون من نصين فقط. الأول يبدأ بعلاقة الفرد والمجتمع، وكيف تعامل الأدب مع صورة المدينة، ثم تطرق من الصورة الكثيرة عن المدينة إلى فكرة تحررنا في الزمن المعاصر من المكان كهوية.
في الأدب، كانت الوسيلة لتصنيف ومعرفة الشخصية هي واقعها الجغرافي المحيط: المكان، الشوارع، والأشياء. لذا، نجد الأدباء يسهبون في وصف الوسط المحيط، وعادة ما تبدأ الروايات بوصف المدينة وحالتها، ثم الشوارع إذا كانت واسعة فارهة أو مجرد أزقة.
السؤال الذي يطرحه الكاتب هو: ماذا حدث عندما دخلنا إلى عالم وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أصبح من العادي ألا يظهر لنا كل تلك المعلومات عن مكان الشخص على أرض الواقع؟ حينها تتحول اللغة إلى الدلالة الجديدة للتصنيف والتعريف، فكل ما تعرفه عن الإنسان ناتج عما يكتبه أو ما يقوله.
الجميل أن النص الثاني في الفصل مختلف، فهو ليس مقالًا، بل مقتطفات من ذكريات الكاتب عن موطنه «كامب شيراز». يتحدث فيها عن حكايات المنطقة والجيران، وكل الوصف الكلاسيكي المجاور للذكريات التي وصفها قبلًا في النص الأول، والتي تعبر عن الهوية دون أن يصرح بها مباشرة.
هذا الفصل هو سلسلة من المقالات والأفكار للكاتب ولآخرين عن فكرة المكان. افتتحها مهاب نصر بالحديث عن الحضور القوي للصحراء في أعمال نجيب محفوظ، خصوصًا في «الحرافيش» و«أولاد حارتنا»، حيث الصحراء أو «الخلاء» هي مسرح الأحداث:
«ولا يتمثل حضور الصحراء فقط في ظلها الجاثم على صدر المدينة، أو في الاستعانة الرومانسية بها كوسادة رابية تتوسدها المدينة في ليالي الأرق، بل في حالة الغموض الذي يسم الشخصية الروائية المنتمية إلى مكان كهذا».
أهم ما يميز هذه الأفكار عوضًا عن الشرح المستفيض لمكان الصحراء عند نجيب محفوظ، هو تكسير بعض الأفكار الراسخة عنه وعن أعماله، مثل أن أعماله لا تنتمي إلى الواقعية كما نتصور. واستشهد بمقاطع من الوصف المقتضب أو الكاريكاتوري، وبرأي سيزا قاسم التي ترى أن مقارنته مع الأعمال الواقعية الأوروبية من ناحية الوصف تبين الفرق.
كما يرى أن البيئة التي اختارها نجيب محفوظ لنفسه أقرب إلى الديكور الثابت في المسرح. إنها دائمًا الحارة بعناصرها التي، وإن كثر عددها، لا تتغير.
تتناول المقالات في هذا الفصل فكرة الجسد كموضوع فلسفي ووجودي في سياقات متعددة، مثل التفاعل الإنساني والتعبير الثقافي.
يطرح الكاتب أربع ملاحظات تسلط الضوء على الجسد كوسيط للتواصل، لكنه في الوقت ذاته يحمل قيودًا وأبعادًا تجعلنا نفكر في حدود قدرتنا على التعبير عن ذواتنا من خلاله.
في مقدمة الكتاب، ذكر أن العمل هو مجموعة من المقالات المتفرقة التي نشرت بين 2013 و2021 لمهاب نصر. وبالتالي، كان هناك تفاوت واضح في شكل وأسلوب الكتابة.
في النهاية، يفتح هذا الكتاب بابًا واسعًا للتأمل في أسئلة الهوية والمكان والتعبير، مستندًا إلى رؤى أدبية وفلسفية عميقة تستكشف أعمال نجيب محفوظ وسياقاتها.